عندما يرتدي القُبْح جُبة الفلسفة .. بريقِ حُلْم متهالك وظلال واقعٍ آسر - موقع رادار

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

عزيزي الزائر أهلا وسهلا بك في موقع رادار نقدم لكم اليوم عندما يرتدي القُبْح جُبة الفلسفة .. بريقِ حُلْم متهالك وظلال واقعٍ آسر - موقع رادار

1

في حديث سابق، وضعتُ تساؤلًا حول الجمال باعتباره موضوعا فلسفيا، متسائلًا إن كان يمتلك القدرة على إنقاذ العالم أم أنه مجرد شعار مثالي يختبئ وراءه وهمٌ عابر وتوهّمٌ زائل. أما اليوم، فأخصّص حديثي للقُبح بوصفه قضية فلسفية تكشف عن تناقضات الإنسان وتحدياته في صراعه مع ذاته ومع العالم من حوله. فإذا كان الجمال يعيد تشكيل أحلامنا ويبعث فينا الأمل، فإن القبح يدفعنا إلى مواجهة الواقع كما هو، في عُريه التام، دون زينة تُخفي حقيقته، وهو بذلك يكشف لنا عن حقائق تستحق التأمل. والأكيد هو أن القبح ليس مجرد غياب للجمال، من ثمة يمكن اعتباره مرآة تعكس هشاشتنا، وتضعنا أمام تساؤلات جوهرية عن معنى الحياة وسرّ الوجود، ما دام يدعونا إلى التفكير في جوهر الحقيقة بعيدًا عن المظاهر الخادعة والمتخيَّلة، كاشفا لنا عن أبعاد من البحث الفلسفي حول ذواتنا والعالم من حولنا.

يعَدُّ كتابا Umberto Eco Histoire de la laideur -Histoire de la beauté: ” تاريخ الجَمَال” و”تاريخ القُبح” من أبرز الدراسات التي سعت إلى تفكيك مفهومين مركزيين في حياة الإنسان: الجمالُ والقبحُ، عبر استعراض تطورّهما من منظور تاريخي وفلسفي وثقافي. يعكس هذان العَمَلان محاولة جادّة لتقديم رُؤية شاملة حول كيفية تغيّر دلالاتهما وتأثيرها على الفنون والآداب والعمارة. الجمال، كما يعرضه أمبرتو إيكو، ليس مفهومًا مطلقًا؛ بل فكرة نسبية تتغير تبعا لتحولات الزمن والثقافات. في الفلسفة الإغريقية، كان الجمال يُعبّر عن التناسق والتناغم المثاليين؛ وهو ما تجلّى بوضوح في فنون العمارة والنحت التي تأثرت بهذه الرؤية. أما في العصور الوسطى، فقد اكتسب الجمال بُعدًا روحيًا، لارتباطه بالتَّسامي الإلهي. وتجسد ذلك بجلاء في الأعمال الفنية التي تحمل الطابع الديني وتعبّر عن السُّمُوّ الرُّوحي.

على النقيض من ذلك، ينشغلُ كتاب تاريخ القُبح بتحليل مفهوم يبدو، للوهلة الأولى، نقيضًا للجمال؛ لكنه في جوهره ينطوي على أبعاد مُتعددة التّعْقيد. فالقبح ليس مجرد انعدام للجمال، بل هو “حقيقة” تمتاز بتنوع دلالاتها وتغيرها وفق اختلاف العُصور والثقافات.

كان القبح في الفكر الإغريقي يُعتبر رمزًا للشر والنقص، معبرًا عن غياب التناغم والكمال؛ إلا أن هذا التصور شهد تحولًا في العصور اللاحقة، حيث أصبح يجسد مشاعر القلق والاضطراب، بل وأحيانًا يُعبر عن تمرد على معايير الجمال التقليدية. ونتيجة لذلك، اكتسب القبح أبعادًا جديدة تتجاوز دلالاته الأصلية، لتصبح أكثر تعقيدًا وثراءً.

يوضح إيكو في كتابيْه أن العلاقة بين الجمال والقبح ليست علاقة تضادّ صارم؛ بل هي علاقة معقدة تتخللها مناطق رمادية يتداخل فيها المفهومان. ويتجلى هذا التداخل بوضوح في الفن القوطي، الذي يجمع بين جمالية الرهبة وقسوة الغموض، ليخلق تجربة جمالية تثير التأمل والتساؤل عن معنى الجمال ذاته في مواجهة القبح، وما إذا كانا يشكلان معًا نسيجًا واحدًا يعبّر عن تناقضات الحياة.

لست بحاجة إلى التذكير بأن عصر النهضة شهدَ تحولًا جذريًّا في مفهوم الجمال، لما استعاد الإنسان ثقته بجسده وبالطبيعة، وأعاد الاعتبار للتناسق والتناغم كما عبرت عنه الفلسفة الإغريقية. وهذا ما تمثلته الأعمال الفنية التي خلّدها فنانون مثل da Vinci وMichelangelo، بتشخيصها للجمال وتبئيره حول الكمال الإنساني؛ بينما أضفى العصر الباروكي على مفهوم الجمال طابعًا دراميًّا وحركيًّا، ليجعله مرتبطًا بالحركة والإثارة، متجاوزًا بذلك مفهوم الثبات الذي كان سائدًا في العصور السابقة.

ومع حلول القرن التاسع عشر وظهور الرومانسية، تغيّر منظور القبح، فلم يعد يُنظر إليه باعتباره شرا مطلقا؛ بل أضحى قوة تغني التعبير الفني. كما احتفت الحركة الرومانسية بالغرابة والمأساوية بما هما جزء من جمالياتها.

أما في العصر الحديث، فقد أحدثت الفنون التكعيبية والسريالية قفزة نوعية في مفاهيم الجمال التقليدية، فتمردت على الأطر المألوفة والأشكال المثالية؛ وهو ما أدى إلى فتح أفق جديد للنقاش حول العلاقة بين الجمال والقبح، وأثّر في إعادة تعريف الحدود بينهما. فقد أولت هذه الحركات الفنية اهتمامًا خاصًا بالقبح، بوصفه تعبيرًا عن واقع الإنسان، في ظل التحولات الاجتماعية والثقافية العميقة التي ميزت تلك الحقبة.

لم يغفل إيكو في كتابيْه دور الأدب والفن في تشكيل مفاهيم الجمال والقبح، فقد بيّن كيف استُعمل القبح أداةً للتعبير عن أعقد مشاعر الإنسان؛ مثل الخوف والألم والتّمرّد، كما هو الأمر مثلا في لوحات Francisco José de Goya، بتجسيدها للقبح بوصفه وسيلة للتعبير عن اضطرابات عصرها.

كما تناول إيكو تأثير الأساطير والرموز في تشكيل مفاهيم الجمال والقبح، موضحًا كيف أن الأساطير احتفت بجمال الآلهة والأبطال؛ في حين قدّمت القبح من خلال صور الوحوش والعقاب الإلهي، مما أضفى عليها بُعدًا دلاليًا يعكس عمق قلق الإنسان أمام الطبيعة والمجهول، ويكشف عن هشاشته أمام القوى الغامضة التي تحدد مصيره.

ليس القبح مجرد نقيض للجمال، إنه تجسيدٌ لتمرد الإنسان على المألوف والسائد، كما تجلى ذلك بوضوح في الحركات الفنية الحديثة، أو عند تعلّقهما بالفن الديني والذي لم يقتصر فقط على تمثيل الجمال الإلهي وحسب؛ بل وظف القبح أيضًا أداة للتعبير عن الخوف من العقاب والرهبة المرتبطة بالخطيئة، مما أضاف عمقًا دلاليًا لمفهومَي الجمال والقبح في السياقات الروحية، حيث أضحيا معًا عنصرين أساسيين من أجل فهم علاقة الإنسان بالعالم المقدس.

2

ليس القبح مجرد إدراك حسّي عابر؛ بل هو مفهوم فلسفي يتجاوز الحواس حين يعكس تصوّرات الإنسان عن ذاته وعن العالم المحيط به. إنه حالة من التأمل في التناقضات التي تنشأ بين القبول والرفض، وبين الاحتفاء والتجاهل.

في هذا السياق، يُجلّي القبح أبعادا فكرية في النقاشات الفلسفية حول الإنسان وطبيعته، والأنظمة الثقافية التي تحدد معايير الجمال، فضلاً عن السلطة الاجتماعية التي تساهم في تشكيل أحكامنا الجمالية. وبهذا المعنى، يُمثل القبح تجسيدًا للاضطراب الذي يشعر به الإنسان بين تطلعاته المثالية وإدراكه الواقعي لحدود ذاته، لأنه يعكس الجوانب الناقصة، غير المألوفة، وربما غير المرغوب فيها في تجربته الوجودية، مما يفتح المجال للتساؤل حول حقيقة ما هو قبيح ومكانته في فهمنا للعالم.

كان القبح في الفلسفة الإغريقية القديمة مرادفًا للفوضى وانعدام التناسق. لذلك، ربطه أفلاطون بالشرّ واختلال التناغم، على عكس الجمال الذي يعبر عن النظام والانسجام؛ غير أن هذا المفهوم شهد العديد من التحولات مع تطور الفكر الفلسفي: لم يعد القبح في الفلسفة الحديثة مجرد نقيض للجمال، بل غدا موضوعًا قائمًا بذاته يعبّر عن حالة من الوعي بتناقضات الإنسان وقلقه الوجودي.

هكذا، يمثل القبح، من الناحية الجمالية، تجربة معقدة تقترن بالنفور والانزعاج لإثارته مشاعر الرهبة والاضطراب. ليس القبح هنا مجرد مظهر خارجي، بل هو نافذة على الحقائق التي يخشى الإنسان مُواجهتها، سواء تعلق الأمر بالموت، أو الألم، أو الفوضى التي تهيمن على الطبيعة. لذلك، لعبت الثقافة دورًا حاسمًا في تشكيل نسبية مفهوم القبح لاختلافه من زمن إلى آخر ومن مجتمع إلى آخر. ما قد يُعتبر قبيحًا في ثقافة معينة، قد يُحتفى به في أخرى. تعكس هذه النسبية البعد الاجتماعي والجمالي للقبح، حين يتمّ استعماله أحيانًا أداة للهيمنة أو التهميش.

كما يرتبط القبح من الناحية النفسية بمشاعر الخوف من المجهول وغير المألوف، فقد جسدت الأساطير القديمة هذه العلاقة عبر تصوير الكائنات المشوهة بوصفها رموزا للقبح والخوف في الآن ذاته.

ساهمت الفنون الحديثة في إعادة تعريف مفهوم القبح، بحيث أصبح جزءًا لا يتجزأ من التجربة الجمالية التي تعمق فهم الإنسان لذاته. لقد أضحى القبح في هذا السياق أداة فنية تحمل في طياتها قدرة على التعبير عن غموض الكينونة، مشيرة إلى تحوّل فلسفي في كيفية النظر إلى الجمال والقبح معا. شكل هذا التحول تمردا معلنا على القيم الفنية القديمة، ودعوة إلى استكشاف الحقائق الإنسانية بعيدًا عن الصور المثالية التي تروج لها الثقافة السائدة، ليصبح القبح وسيلة للكشف عن واقع الإنسان بكل تعقيداته وتناقضاته.

3

هذا المنظور يصبح التفكير في القبح سؤالا فلسفيا يرفض الانصياع للإجابات الجاهزة ويقوض ثبات المعايير التقليدية. فالقبح، في جوهره، انعكاس للصراع المستمر بين الكمال والنقص، وبين المثال والواقع. بهذا المعنى، يمكن النظر إلى القبح بوصفه فكرة تحفّز العقل على النقد والتأمل، وتدفع الإنسان إلى مواجهة كينونته بعيدًا عن بهرج الجمال الظاهري. ورغم ارتباط القبح تقليديًا بالنقص والعيب، فإنه يحمل في طياته أبعادًا فلسفية غنية؛ فهو ليس مجرد غياب للجمال أو تمثيلًا لما هو غير مرغوب فيه، بل هو لحظة صراع بين المثال المتخيّل والواقع المُعاش. بهذا التصوّر، يمكن التفكير في القبح بوصفه أفقًا مفتوحًا لتمثل الجمال، بعيدًا عن كل زيف سطحي قد يحجب جوهر الحقيقة.

القبح تجربة وجودية تحمل في أعماقها مواجهةً صريحة مع الواقع كما هو، بعيدًا عن زخارف المثالية وأقنعة الكمال. بهذا المعنى، يمكن التساؤل: هل القبح مجرد انعكاس لحدود قدرتنا على فهم الجمال، أم أنه دعوة لتجديد فهمنا لعتمة الوجود، وكشف ما نخشاه من مواجهة ذواتنا ومن التفاعل مع الآخرين؟ وهل يمكننا أن نتلمّس في القبح حقيقة أكثر عمقًا مما يقدّمه لنا الجمال؟ هل يستطيع القبح، بما يثيره من نفور وتأمل، أن يحررنا من قيود التصورات النمطية، ليكشف لنا جوهر الإنسان في لحظات ضعفه وصدقِه؟

في عالمنا المعاصر، يتجلى القبح جليّا في الأحداث والمآسي التي تلاحقنا من كل جانب؛ في الحروب التي تدمّر الأرواح والأوطان، وفي الظلم الذي لا يعرفُ الرحمة، وفي الاستغلال الذي لا ينتهي…

قبحٌ معاصر يرسم ملامحنا بين بريقِ حُلْمٍ مُتهالك وظلالِ واقعٍ آسر، مُظهِرًا وهَن الإنسان وسَط دوّامة الحياة وعُنفوانها..

لنتأمل؛ وإلى حديث آخر.

أخبار ذات صلة

0 تعليق