سوريا تستعد لتحرير سعر الصرف باعتماد نظام التعويم المدار لليرة

في خطوة تهدف إلى إعادة بناء استقرار الليرة السورية، أعلن مصرف سوريا المركزي توجهه نحو سياسة “التعويم المدار”، وهو مفهوم يبدو للوهلة الأولى معقدًا، لكنه ببساطة يعني ترك العملة تتحرك بناءً على العرض والطلب مع تدخل الدولة عند الضرورة. هذه السياسة تأتي بعد سنوات من التحديات الاقتصادية الشديدة التي أثرت بشكل كبير على الاستخدام الفعلي لليرة السورية ومكانتها في السوق.

ما المقصود بـ”التعويم المدار” لليرة السورية؟

في أبسط تعريف، “التعويم المدار” هو شكل من أشكال إدارة سعر الصرف حيث يتخذ البنك المركزي دورًا فعالًا في ضبط حركة العملة المحلية، في هذا النموذج، لا يتم تحديد السعر رسميًا بشكل صارم كما كان في الماضي، بل يُسمح له بالتغير في حدود معينة ترتبط بأداء الاقتصاد وإمدادات العملات الأجنبية. تمامًا كما يحدث في أنظمة تتبع هذا التعويم، مثل الصين أو مصر، يتمكن البنك المركزي من التدخل عند حدوث تغيرات حادة قد تهدد التوازن النقدي.

لكن نجاح هذه السياسة يعتمد على بعض الأساسيات، مثل توافر احتياطي نقدي كافٍ لمواجهة الطلب على العملات الأجنبية وضمان استقرار قيمة العملة المحلية. وفي حالة سوريا، يبدو أن المشكلة ليست فقط في فهم كيفية تطبيق هذه السياسة، ولكن في تأمين موارد مادية كافية لتحقيق التوازن بين العرض والطلب والنظر في آثار التحديات الاقتصادية المتراكمة.

لماذا يُعتبر التعويم المدار خيارًا صعبًا لكنه ممكن؟

قبل القفز إلى تنفيذ التعويم المدار، يشير خبراء النقد السوريون إلى مجموعة من العقبات التي تواجه تطبيق هذه الخطوة. أبرز التحديات هي ضعف الاحتياطي النقدي الذي يجعل البنك المركزي أقل قدرة على التدخل في السوق. كما أن سياسة حبس السيولة التي اتبعت سابقًا أثرت سلبًا على الإنتاجية والتجارة وساهمت في تشوه القيمة الحقيقية لليرة.

ومما يسترعي الانتباه أن العديد من الدول التي طبقت هذه السياسة، كانت قد أجرت إصلاحات شاملة في بنيتها الاقتصادية قبل الانتقال إلى التعويم المدار، حيث عملت على:

• تعزيز الشفافية في بياناتها المالية
• إطلاق منصات رسمية لتحديد أسعار الصرف بناءً على العرض والطلب
• رفع معدلات الفائدة بشكل يتناسب مع معدلات التضخم لإعادة الثقة بالمؤسسات المالية
• الحد من الاعتماد المفرط على السوق السوداء لتحقيق استقرار نقدي فعال

أما بالنسبة لسوريا، فبدون قاعدة اقتصادية وقوانين تحكم السوق بشكل عادل، قد تنعكس آثار التعويم المدار سلبًا على الوضع الاقتصادي الحالي.

دروس مستفادة من التجارب السابقة

خلال السنوات الأولى للأزمة السورية، لجأ البنك المركزي إلى طرح مزادات لبيع الدولار للمحافظة على استقرار قيمة الليرة وحد من تأثير تداول السوق السوداء، لكن النتيجة كانت سلبية للغاية. استنزفت تلك المزادات الاحتياطات النقدية، مما أدى إلى اختلالات حادة في سعر الصرف. وبين عامي 2016 و2018، تغير الوضع نسبيًا عندما نجح المركزي في تطبيق تعويم مدار غير معلن، مما ساعد على استقرار سعر الليرة لبعض الوقت.

لكن السياسات النقدية التي تبعت تلك الفترة، بما فيها تقييد الكاش ومنصة تمويل المستوردات، أعادت الفوضى إلى سوق الصرف. النتيجة كانت الارتفاع غير المسبوق لسعر الدولار مقابل الليرة وتراجع القدرة الشرائية للمواطنين، وهو ما يجعل أي محاولة حاليًا لاستعادة فعالية التعويم المدار محفوفة بالمخاطر وتستلزم رؤية واضحة وخطة طويلة الأجل.

كيف يمكن تنفيذ التعويم المدار بنجاح في سوريا؟

حتى ينجح التعويم المدار في تحقيق التوازن المطلوب، يجب تضمينه مجموعة من الإجراءات التمهيدية، منها:

• إلغاء قيود السيولة تدريجيًا مما يساعد في تحريك عجلة الإنتاج
• إطلاق منصة رسمية لبيع وشراء الدولار بسعر قريب من السوق الموازية
• تشجيع الإيداعات المصرفية عبر رفع الفائدة لمستويات تناسب معدلات التضخم
• التأكد من أن التدخل في السوق يتم ضمن آليات واضحة وشفافة
• تطوير القوانين المتعلقة بإدارة النقد الأجنبي لضبط عمليات الاستيراد وتعزيز الصادرات

وفي سياق التنفيذ، يمكن النظر إلى التجربة الأخيرة لانخفاض سعر الصرف من 15 ألف ليرة مقابل الدولار إلى 9 آلاف ليرة كمؤشر إيجابي يعكس بعض التحركات المدروسة، ويشير إلى إمكانية نجاح سياسة التعويم المدار لو اقترنت بإجراءات داعمة.

وأخيرًا تأتي أهمية امتلاك خطة نقدية شاملة، تشمل تشخيص واقع السوق وتوقع تقلباته، مع الأخذ بعين الاعتبار دور المواطنين في استعادة الثقة بالنظام النقدي. سياسة التعويم المدار ليست مجرد أداة اقتصادية، بل اختبار حقيقي لإرادة الإصلاح.